Monday, January 4, 2010

أنا والموت

راضٍ بكل تفاصيل حياته، حلوها ومرِّها، وإن كان لا ير فيها مرًا، بل هي سنة الحياة
يؤمن أن ما أصابنه بلاء في حياته إلا وأثبتت له الأيام أنه كان عين اللطف والكرم والجود
لم أفهمه جيدًا، فاستطرد موضحًا بحكايات ثلاث
(1)

في البدء توفي والده رحمه الله في العام 1993 تقريبًا، وهو بعدُ في الثلاثينات من عمره (والده وليس هو)، والموت حدث جلل، لا يعرف هوله إلا من احتك به، ويكفي لتوضيح ذلك أن ربنا جل وعلا وصفه بالمصيبة حين قال في سورة المائدة {فأصابتكم مصيبة الموت
لكنه حين ينظر الآن إلى هذا الحادث في حياته، يجد الكثير من رحمة ربه بي؛ أولا: كيف اختار والده لجواره في توقيت كان فيه يرفل في حنان جده وجدته، اللذين كانا يحبانه حبًا جمًا، ولا يظن بشرًا في الدنيا له عليه حقٌ مثل ما لهما. أليس هذا عين اللطف؟! .. يراه هو كذلك عل كل حال
(2)

كان والده رحمه الله يمتلك مصنعًا للملابس الجاهزة، ولأنه أكبر أبنائه، لربما لو كان الله قد مدَّ في عمره حتى اليوم، لكان الابن أصبح الآن في مكان غير الذي هو فيه، ربما كان الآن يدير مصنعهم، أو على الأقل يفعل شيئًا آخر غير الذي يفعله الآن، ومن يعرف حبه لمهنته (التي يراها تجمع بين هوايته ودراسته) يعرف كم كان ذلك سيكون خسارة بالنسبة له. (طبعا لا يفاضل هنا بين والده، رحمه الله، ومهنته، لأن هذا غير واقع الآن أصلا، وما يتحدث عنه هو محض افتراض). لكنه في نفس الوقت موقن أنه لو كان يعمل شيئًا آخر الآن، لكان ذلك أيضًا عين مصلحته، لأنه لم يجرب على ربه غير ذلك، وحاشاه سبحانه أن يُجرَّب، لكنه واقع عايشه ولمسه، فله الحمد كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه

في العام التالي توفي جده رحمه الله، ومن يعرف كم كان يمثل له ولجدته، يعلم مدى ألمهما رحيله، لكنه في الوقت ذاته يجد لطف ربه أن اختاره لجواره هو الآخر في وقتٍ كان يرفل فيه في حنان جدته، التي هي أكثر بشر له عليه أيادٍ، ولا يظنه يوفيها حقها وإن ظلًّ يستغفر لها ويثني عليها أبد الدهر

وتمر الأيام، ويشب هذا الفتى الذي لا يعرف من أعباء الدنيا إلا المذاكرة، ولم يتحمل يومًا من الهموم سوى همٍ ترتيب جدوله، ليفاجأ وهو في هذه الحالة من الترف، بمرض مفاجئ يصيب الوحيدة التي بقيت له في الدنيا، وكانت هذه أول مرة يقول لنفسه فيها: لقد أتتكَ القاصمة وبالفعل عاش أصعب أيام حياته حينها، وقد ذكرتُ طرفًا مما شعر به قبل وفاتها في تدوينة سابقة بعنوان (هي.. رحمها الله) لكني لم أذكر كم ألفَ البكاء والوحدة والانقطاع عن الناس
في هذا الجو الكئيب، لم يعهد من ربه أن يتركه، وقد كان
لم يفهم ذلك ساعتها، لكنه الآن يفهمه حقًا
تمرض هي، لينتقلا لتلك البلد في زيارة استجمام، وهناك تخطب له زوجته، قبل أن تموت بأيام
ينتقل إلى هناك، لأتعرف على أصحاب يغيرون مسار حياتي
يتلقى هذه الصفعة في هذا التوقيت ليشتد عوده، ويتحمل المسئولية
يُفاجأ بأن الدنيا كلها قد أظلمت، لتتكون لديه مناعة يظنها أفادته كثيرًا بعد ذلك
تعلم حينها لذة البكاء، وحلاوة الخلوة، وقرأ كما لم يقرأ في حياته، وتعلم في سنوات ما لم يكن سيتعلمه في عقود
وكما تقول والدته –حفظها الله- دومًا له (ربنا هو اللي رباك)، في وقت كان الكل يقول: إنه ضائع لا محالة (شابٌ ومال وبيت خالٍ= الخلطة السحرية للانحراف

هذه حكاياته مع الموت، المصيبة على حد وصف ربنا، لم يجده إلا رحمة كبرى
هذه المصائب وجدها رحمات، فكيف بالرحمات؟
لن أحكي عن تجربته في العمل، ولا عن زواجه وبيته، ولا عن صحبه ومعارفه، فكلها حكايات تفيض بكرم الرب، رغم تقصير العبد
ووالله حين يقول لمن يسأله عن حاله: في نعمة وعافية وستر أتمرغ فيهم، لا يقولها بلسان، بل وكل ذرة في كيانه تشعر بها، يقول ذلك دومًا ويُقسم عليه
فله الحمد كله، وله الشكر كله، وإليه يرجع الأمر كله
له الحمد حتى يرضى، وله الحمد إذا رضي، وله الحمد بعد الرضا
له الحمد أبدًا أبدًا، لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه

0 comments:

Followers

Followers

Pages


Blogger Templates by Isnaini Dot Com. Powered by Blogger and Supported by Urban Designs