Wednesday, November 4, 2009

عزازيل وأنا


إثر دعوة كريمة من أحد الأصدقاء، بدأتُ في قراءة رواية "عزازيل" وانتهيتُ منها منذ يومين تقريبًا
الرواية صادرة عن دار الشروق سنة 2008، وهي من تأليف الدكتور "يوسف زيدان" الخبير في المخطوطات والفلسفة، وفازت بالجائزة العالمية للرواية العربية كأفضل رواية عربية لعام 2009م، لكنني بعد قرائتها أصبحتُ أخاف منها! ليس لأنها تناولت الخلافات اللاهوتيةالمسيحية القديمة حول طبيعة المسيح ووضع السيدة العذراء، والاضطهاد الذي قام به المسيحيون ضد الوثنيين المصريين في الفترات التي أضحت فيها المسيحية ديانة الأغلبية المصرية. لكن لتوغلها الدقيق في وصف لحظات ضعف هيبا، وتجرده من ثوب رهبانيته
حادثتُ صديقي ليلة أمس عنها، فتبانيت آراؤنا. هو يرى "هيبا" منافقًا، وأنا أراه تجسيدًا لحقيقتنا المتناقضة التي نخجل من الحديث عنها. قال صاحبي: كان عليه أن يختار بين الرهبنة أو التلذذ بأوكتافيا وبعدها مرتا، لكني أقول: ومن منا لا يرتدي ثوب الرهبنة على قلب ذئب. أتحدث هنا عن الطبيعة البشرية سريعة التقلب والتغير من حال لحال
على كل حال أوقتفني كثيرًا جودة لغتها، وحسن اختيار كلماتها، وتطرقه لأوصاف لم أسمع بها من قبل، كوصفه للقرى المتاخمة للنيل، بأنها تنام على خده
اللغة التي كتب بها يوسف زيدان هذا العمل هي لغة عربية راقية وعميقة وممتعة، على حد وصف د. يحيى الجمل
د.يوسف زيدان قال عن "عزازيل": "كتبتُ رواية عن الإنسان المختفي وراء الأسوار العقائدية والتاريخية ونظم التقاليد والأعراق السائدة التي وصلت من التفاهة بحيث حجبت الإنسان، فكل ما في الأمر هو أنني حاولتُ أن أمس وأفهم هذا الجوهر الإنساني، وكل ما عدا الجانب الإنساني للراهب هيبا كالمعرفة باللاهوت، بالتاريخ، حياة الأديرة، اللغة، الحيلة الفنية، الإيهام، الصور فكلها أدوات فالغرض الأول هو اكتشاف الإنسان الذي يُسعى حالياً لإجهاضه
وقال أيضًا: "الرواية كُتبتْ لتحرير ملايين الأقباط، والذي يحزنني بأن الأقباط جزء مني وأنا منهم، فأنا لا أستطيع الكتابة إلا أمام تمثال السيدة العذراء( نسخة عن تمثال مايكل أنجلو في روما)، وأكثر آيات القرآن الكريم تأثيراً بي هي "سورة مريم
أما البابا كيرُلس عامود الدين بطريرك الأسكندرية الرابع والعشرين لدى الأقباط، فقال عنها: "يوسف زيدان اخترق جدران الأديرة ودخل إلى حياة الرهبان فكتب عنها وهذا ما أزعج البعض، وقد تجاوز الخطوط الحمراء لأن شخصيات الرواية هي بمصاف القديسين لدى بعض الكنائس

أوقفتني جمل كثيرة أعتبرها حِكَمًا تلخص في مفردات قليلة الكثير من الصفحات .. سأكتب بعض الجمل التي أوقفتني، بعضها مذيلا بتعليقٍ بسيط ذكرته وأنا أقرأ، والبعض الآخر سأكتفي بإيراده بلا تعليق، فالفقير إلى عفو ربه ليس ناقدًا أدبيًا
هناك جمل أخرى أعجبتني لكني لم أنقلها ربما لعدم مناسبة الوقت حينها، أو ربما لأنها كانت تحدث عن غوايات "أوكتافيا" (التي أبعدتني عن الرواية أيامًا)، أو نزوة "مرتا
*قال القس "نسطور" ممازحا "هيبا" الذي امتدح مذاق الطعام: هو طعام مبارك، مطهو بالمزامير، على نار التسبحة الهادئة!
ذكرتني بمقولة الشيخ "عبد الوهاب القمري" الذي قال لي في أحد المساجد منذ ما يربوا على العشر سنوات: إن هذا الطعام قد طُهِي بالتسبيح، من نقَّى الأرز كان يسبح ويحمد ويهلل، وكذلك فعل من طبخه وقدَّمه. وبكلامه نصحتُ أم مريم بعد ذلك أن تفعل لتستثمر وقتها في المطبخ.
*حتى الصفحة 17 كان الانطباع الذي يسيطر عليَّ: (مالذي يدفع أحدًا إلى وصف هذا الشيء بأنه أروع ما قرأ؟)، لكن حينما وصلتُ إلى الصفحة 22 شدتني حكاية مقتل والد "هيبا" على أيدي عوام المسيحيين بعدما أمسكوا به يحاول تهريب السمك للكهنة المتحصنين في المعبد. (إنها حكاية التطرف والإرهاب، الذي لا يعرف دينًا)
*أعجبني في "هيبا" تأدبه مع الكبار، لدرجة أنه كان يمتنع عن إجابة الأسئلة التي يطرحونها عليه حتى وهو يعرفها (رغم أن ثورة شبابه دفعته ذات مرة للحديث قبل أن يُطلَب منه، ومقاطعة مناجاة أحد هؤلاء الكبار). أعجبني فيه كتمانه لبوح "نسطور" الذي قال عنه (وهذه ميزة أخرى في الرجل): لن أحكي ماحكاه لي يومها عن نفسه، فهذا مما لا يصح تدوينه ولا يجوز. فأنا أعرف أنه ما حكى لي ما حكاه يومها، إلا ليسري عني، مؤتمنًا إياي على أسرار لا تخصني، ومن المحال أن أبوح بها هنا.
*تمنى "هيبا" أن يكون شجرة وارفة الظلال غير مثمرة، فلا ترمى بالحجارة، وإنما تهواها القلوب لظلها. مأوى للمنهكين لا مطمعا لطالبي الثمار. ربما كان يرى أن الناس بحاجة أكثر إلى الظل –الذي يحتاجه هو- من حاجتهم إلى الطعام. ثم توجه لربه يدعوه أن يحقق أمنيته. تلك الأمنية التي حينما عرض مثلها على النبي قال (إن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم).
*-هل يذكرك هذا بشيء؟
-نعم يذكرني بأشياء، وما أدراك؟
-من اضطراب قلبك بل أرى عينيك تكادان تدمعان.


*النوم هبة إلهية، لولاها لاجتاح العالم الجنون. كل ما في الكون ينام، ويصحوا وينام، إلا آثامنا وذكرياتنا التي لم تنم قط، ولن تهدأ أبدًا.

*الكتابة تثير في القلب كوامن العواصف ومكامن الذكريات، وتهيج علينا فظائع الوقائع.

توقفتُ عند الصفحة 26، لأتناول طعام الغداء يوم الاثنين 29 شوال 1430 الموافق 19 أكتوبر 2009 .

*عزازيل حججه قوية، وهو غالبًا ما يغلبني.. أم تُراني جَرَّأته عليّ لأنني ، حسبما يزعم، أجلبه نحوي بترددي الدائم وقلقي المزمن.

*كدتُ أذهب في سكرة نوم، لولا أن انتبهتُ لمجيء شاب في حدود العشرين يتبعه قرد، كلاهما جاء يتقافز في مشيته، وكأن روحًا واحدة توزعت بينهما.

*الأصفر لون الموت ولون الجدب ولون معابد اللآلهة المندثرة، لون الخريف والخطيئة.. قالت: يذكرني بالمرض.

*تفوتنا في الطريق أشياء كثيرة

*بعدما أفرغ فينا كل ماكان في فمه من كلام، خرج القس مزهوًّا وكأنه ألقى علينا عظة الجبل.

*الشوارع نظيفة، كأنها عروس تغتسل كل ليلة، فتصبح مستبشرة. الكادحون يغسلونها كل ليلة، ويبيتون خارج أسوارها.

*-عزازيل.. جئتَ
-يا هيبا، قلتُ لك مرارًا أنني لا أجيء ولا أذهب. أنت الذي تجيء بي حين تشاء، فأنا إليك منك، وبك وفيك. إنني أنبعث حين تريدني لأصوغ حلمك، أو أمد بساط خيالك، أو أقلب لك ما تدفنه من الذكريات

*كنتُ في تلك الأيام كورقة شجر جافة تلعب بها الرياح، وأظنني ما زلتُ كذلك

*-ماهذا الكلام وأنت ابن ثلاثين سنة
-أهي ثلاثين؟ إني أظنها ثلاثمائة

بعدما التهمتُ مائة صفحة من الرواية، ابتعدتُ عنها وصرتُ أخاف من الاقتراب منها، ولم أكملها إلا بعد أيام من الهجر.

*في باطن الأرض إذا حفرناها نرى الدود! فهل ماتت الأرض والدود ينخر في باطنها من دون أن ندري؟ حتى يضمحل هذا العالم ويصير إلى العدم، ونحن غافلون

* لاينبغي أن نخجل من أمر فُرِض علينا، مهما كان، ما دمنا لم نقترفه

*-شيشرون وثني ياأبت!
-نعم. لكنه بليغ جدًا، وموهوب من الرب

*الضحوك الوقور، لأنه يجمع بين الصفتين اللتين قلما تجتمعان
يضحك لأهون الدواعي، وحين يضحك، يضع كالعذارى باطن كفه على فمه. ومع ذلك، فقد كانت دمعته قريبة، سريعة الانحدار.

*كل الكائنات تحب النزول وتبتهج له، إلا الإنسان التي يخدعه وهمه وتحدوه أحلامه، فيبهجه الصعود والترقي.

*لابد أن آخذ نفسي بالعزم والحسم، وإلا صرتُ كهذا الحمار ألتذُّ بالعليقة

* أنا لا شأن لي، إنما هي تدابير الرب

*الأسقف كيرُلُّس يبدأ دومًا مهذبًا
هي حيلة ...، يبدأ بمخاطبتي بصفات التبجيل حتى يثير حفيظة الناس، ثم يدعوهم من بعدها إلى الازدراء بي، فيلعنوني لمروقي، ويبجلونه لأدبه.

* لا تقلق ياولدي، فهذا العالم بكل ما فيه، وكل من فيه، لا يستحق قلق المؤمنين.

*عزازيل لديك حيل ومداخل أدق من ذلك، وأمكر... فليشملنا الرب جميعًا برحمته العميمة.

* وما حياتنا على الحقيقة إلا هذه اللحظات الطيبة النادرة.

على كل حال لستُ نادمًا على قرائتها، رغم أنني لا أنصح أحدًا أن يفعل! ولكن إذا كنتَ مصممًا – رغم تحذيراتي- فهاهو الرابط
يبقى القول: شعور رائع، حينما يتحول الكتاب إلى عالم آخر يحتويني بينما أحمله، أغوص فيه بينما هو بين يدي.

0 comments:

Followers

Followers

Pages


Blogger Templates by Isnaini Dot Com. Powered by Blogger and Supported by Urban Designs